وهناك حديث آخر يتعلق أيضًا بالسنة والبدعة، وهو ما روت عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: مَنْ أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رَد ٌّ
وفي رواية:
من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رَدٌّ
يُبَيِّنُ هذا الحديث أن السنة هي ما عَلَّمَهُ النبي صلى الله عليه وسلم وما بَلَّغَهُ، وأنه لا يجوز لأحد أن يحدث في العبادات ما ليس منها، وأن يضيف إليها شيئًا لم يأمر به النبي صلى الله عليه وسلم.
وذلك لأن الله تعالى أمره بالبيان، أمره بأن يبين للناس ما نُزِّلَ إليهم، قال الله تعالى: وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ
وقد شهد له الصحابة رضي الله عنهم بأنه بَلَّغَ، وبأنه عَلَّمَ، وبأنه أَدَّى الرسالة في حجة الوداع لما كان في عرفة خطبهم خطبة طويلة، ثم لما خطبهم بَيَّنَ لهم بعض المحرمات، فوضع كل شيء من أمر الجاهلية، فقال:
إن كل أمر الجاهلية فهو موضوع تحت قدمي
فَمِنْ ذلك أنه وضع دماء الجاهلية، الدماء التي هي القتال والإحن التي كانت بينهم، وقال: أول دم أَضَعُهُ دم فلان رجل من بني هاشم قتلته هُذَيْل،
وكُلُّ ربًا من ربا الجاهلية فهو موضوع، وأول ربا أضعه رِبَا العباس
الذي هو عمه، أمر بوضعه.
كذلك أيضًا: أخبرهم في خطبته بِحَقِّ النساء، فقال: اتقوا الله في النساء، فإنكم أخذتموهن بأمانة الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله، ولهن عليكم ألا يُوطِئْنَ فُرُشَكم من تكرهون، وألا يَأْذَنَّ في بيوتكم لمن لا تريدون، ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف، ولكم عليهن ألا يُوطِئْنَ فُرُشَكم من تكرهون
وعَلَّمَهُمْ ما يحتاجون إليه.
بعد ذلك قال: لِيُبَلِّغِ الشاهد منكم الغائب، فَرُبَّ مبلغ أوعى من سامع
وقال:
ألا هل بلغت، إنكم مسؤولون عني، فماذا أنتم قائلون؟ قالوا: نشهد أنك قد بَلَّغْتَ وَنَصَحْتَ وَأَدَّيْتَ
؛ يعني نصحت الأمة، وبينت لهم ما يحتاجون إليه، شهدوا له بالبيان، وشهدوا له بالبلاغ.
لا شك أن هذا دليل على أنه بَلَّغَ ما أُنْزِلَ إليه، وأن جميع السنة التي بَلَّغَهَا مما يجب العمل بها، ومما لا يجوز مخالفتها، ومع ذلك لا يجوز الزيادة عليها؛ وذلك لأن الله تعالى أَكْمَلَ له الدين في وقفته بعرفة التي هي حجة الوداع، نزلت عليه هذه الآية في سورة المائدة: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا
؛ فكان ذلك علامة على أن الدين قد كَمُلَ؛ ولأجل ذلك لما نزلت -قال الصحابة أو- خافوا، قالوا: ما تم شيء إلا وبدأ في النقص، فأخذ ذلك بعض الشعراء بقوله:
إذا تَــمَّ أَمْــرٌ بــدا نَقْصُــهُ | تَـرَقَّـبْ زَوَالا إذا قيـــل تــم |